"يا أيها الملأ أفتوني في أمري". كان هذا هو خطاب ملكة سبأ لقومها حسب الرأي القرآني، بعد أن أتاها كتاب سليمان. "أيها الملأ" والملأ هم المختارون من شعبهم لتمثيلهم أمام الملكة، والملكة التي تورد الروايات باسم "بلقيس" هي في التصوير القرآني، من تتوجه لممثلي الشعب تسألهم رأيهم فيما أتاها، وبصياغة أخرى هي تقول لشعبها "إني ما كنت قاطعة أمرا إلا بكم وبرأيكم".
بلقيس كانت تعلم أن الرأي الفردي في شأن يخص الأمة هو رأي لا خير فيه. ورأت في الرجوع إلى الملأ اعترافا بقدرهم، وتقديرا لشعبها في المواقف الحرجة، ولم يعب القرآن هذا الشكل من الحكم ولم يرد به، بل اهتم أن يحكيه للمسلمين بما في هذا الحكي من صدى لشعوب، كانت ذات كلمة مسموعة تتمتع بالهيبة والكرامة وحق المواطنة الكامل.
لقد حكم سليمان حكما مطلقا بحسبانه نبيا، لا يحكم من عنده إنما من عند الله، حكم بالحكمة التي أعطاه الله إياها وأعلنها في آياته، وهكذا إذن حكم الأنبياء، لأنه يتصل بالسماء، تشرف عليه وترعاه بعدل. وإن هذا الحكم هو اللائق، وإلا كان القرآن قد قدح في طريقة حكم بلقيس، أو أمر باتباع طريقة سليمان في الحكم، وهو لم يفعل هذا ولا ذاك، وهو ما يؤدي مباشرة إلى الدرس المبتغى في الآيات، والذي يدعمه بشدة أن نعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن السماء لن ترسل هداة للبشر بعده، ومع ذلك لا تخبر المسلمين بنظام الحكم الأمثل!.
لقد قرر القرآن رفع القداسة عن السياسة وتركها مشاعا للناس لأنها حياتهم ومصالحهم الذين هم أدرى بها حسبما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح.
انظر إلى الحوار الذي يحمل الإشارات الواضحات إلى نظام الحكم، فبعد أن تشاور الملأ فعلا وليس قولا، وبحثوا الأمر ونقبوا فيه من كافة جوانبه، توجهوا إلى ملكتهم ليسلموا لها قرارهم وفيه يقولون: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين". لقد خيروها بين الأمرين بأدب الحديث مع الملوك: الأمر الأول هو أننا أقوياء وواثقون من قوتنا وأنت تعلمين، وأننا على استعداد لخوض المعركة دفاعا عن بلادنا ضد المعتدي، ولا يبقى سوى خيار ثان هو السلام، لكن هذا السلام أو تلك الحرب معقودة دوما وفي النهاية في النظم الحضارية لقرار رئيس الدولة، وهكذا أخبرنا القرآن وهكذا فعل ملأ بلقيس.
أخبرنا أنه رغم ثقتهم في أنفسهم وفي قوتهم لم يتجرأ أحدهم على إعلان الحرب أو القتال. هذا نظام ليس فوضويا إذن، لأنهم أبناء حضارة لا يخرج فيها أحدهم ليحارب العالم رغما عن أنف الشعوب وعن أنف الحكام. الحضارة تقول إنه بعد وضع كل الاحتمالات أمام الحاكم فإنه هو من يتخذ قرار الحرب أو السلام. أترون مدى الاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم؟ وألا ترون أن رأس السلطة في هذه المملكة الإنسانية "امرأة"؟.
ويستمر الدرس فترد بلقيس على ممثلي شعبها، هي لا تتخذ القرار وتنفذه بعدما فوضوها وأعادوا إليها الأمر، إنما هي ترد الاحترام باحترام مماثل فتقول لهم ما رأته: "وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال: أتمدوني بمال؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم".
انظر بلقيس في خطوة تمهيدية ذات حنكة سياسية تختبر صدق نبوة سليمان فترسل له هدية، فيرفضها، فتدرك أنه قد آن أوان أن تتوجه بنفسها إليه لتسمع ما عنده.
رواية لطيفة وهادئة لا معنى لوجودها في القرآن لمجرد تسلية النبي في أوقات فراغه لأنها من عند عزيز حكيم، إنها الدرس الذي نقارنه بحالنا لنجد ملأ بلقيس أكثر اعتبارا منا ولهم من دولتهم شأن، وأنهم كانوا من السابقين إلى إدراك معان حقوقية لا تفرزها إلا الحضارة ولا تفرز إلا حضارة.